• ٢٠ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الخريطة القرآنية للمجتمعات البشرية

د. إدريس الكتاني

الخريطة القرآنية للمجتمعات البشرية

ربما يندهش الكثيرون لهذا العنوان الذي أعني به مدلوله الجغرافي العادي، وهو أنّ الله تعالى في كتابه الكريم صنف المجتمعات البشرية من حيث قيامها بمسؤولية "الأمانة" – التي تعني أداء الوظيفة الدينية في الحياة، أي الخضوع لطاعة الفرائض الإلهية – إلى ثلاثة فرق أو طبقات متميزة بصفاتها وأحكامها، وقرر مصيرها بقوانين أربعة جزائية ثابتة واضحة المعالم، تنتهي بالإنسان يوم القيامة – بعد محاسبته على أعماله في الدنيا – إما إلى الجنة وإما إلى النار.

لا أعرف أن أحداً من العلماء أو الباحثين وضع – منهجياً – مثل هذه الخريطة، وكشف وأبرز "القوانين الإلهية" المتعلقة بها، مستمداً كلّ ذلك مباشرة من نصوص الآيات القرآنية التي حددت الصفات والخصائص والظواهر الاجتماعية المتطابقة تماما مع واقع الأوضاع القائمة في المجتمعات البشرية عموماً، وخاصة في العالم العربي – الإسلامي المعاصر – فضلاً عن القديم – والتي تقدم لنا التفسير الإسلامي لأسباب الهزائم والانهيارات التي منيت بها الأنظمة والمنظمات والأحزاب العربية المعاصرة بصفة خاصة، في مواجهاتها الفاشلة مع أعداء الإسلام.

يمكنك وأنت تقرأ القرآن أو تدرسه، أن تجد (وصفاً) معيناً يطلقه الله تعالى على "مجموعة" من خلقه في سورة (التوبة)، وهو "بعضهم أولياء بعض" فتفهمه في حدود معناه الخاص بتلك المجموعة على حدة، حسب صفاتها وموقعها في السورة، لكنك ستجد نفسك بعد فترة من الزمان والمكان، أمام نفس الوصف يطلقه القرآن على "مجموعة" أخرى من خلقه في سورة (الجاثية)، فتفهمه في حدود معناه الخاص بتلك المجموعة على حدة أيضاً، حسب صفاتها وموقعها في السورة، دون أي إشكال، وقد تنتقل مرة أخرى إلى سورة (الأنفال)، فتقرأ نفس الوصف يطلقه تعالى على (مجموعة) ثالثة أخرى من خلقه، فتفهمه أيضاً في حدود معناه الخاص بتلك المجموعة على حدة، حسب صفاتها وموقعها، وبانسجام تام، مع النسق العام للسورة، في كلّ مرة يرد فيها هذا الوصف.

لكننا إذا قمنا بعملية (المقارنة) بين هذه (المجموعات الثلاثة) من البشر، انطلاقاً من "نظرة تركيبية كلية" مختلفة عن "النظرة التحليلية الجزئية" التي صاحبتنا – وتصاحبنا عادة ودائماً – في قراءاتنا السابقة، فسنلاحظ أنّه بالرغم من الاختلاف الشديد بين طبيعة وعقيدة هذه المجتمعات الثلاثة، فإنّ الوصف الذي أعطي لكل منها للتعريف به، هو وصف واحد مشترك بينها جميعاً وهو "ولاء ونصرة بعضهم لبعض"، وسنجد أنفسنا أمام تصنيف إلهي واقعي للمجتمعات البشرية إلى ثلاثة فرق أو أقسام لا رابع لها، يشملها وصف مشترك واحد بين فئات كلّ منها، يهدف لتحديد الاتجاهات النفسية – الاجتماعية المميزة لمجموع هذه الفئات بعضها من بعض، ومعنى هذا أنّنا سنجد أنفسنا فعلاً أمام (خريطة قرآنية) لتصنيف البشرية كلها إلى ثلاث مجتمعات:

الأوّل: "مجتمع المؤمنين":

في قوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (التوبة/ 71).

والثاني: "مجتمع الظالمين":

في قوله تعالى: (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (الجاثية/ 19).

والثالث: "مجتمع الكافرين":

في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (الأنفال/ 73).

 

الأدلة على تحديد هذا التصنيف في ثلاث مجتمعات:

الدليل الأوّل:

بتتبعنا للفرق المذكورة في القرآن التي قد يتخيل بعض الناس أنها مجتمعات أخرى، لها نفس خصائص المجتمعات المذكورة، لم نجد إلا جماعة (المنافقين)، وطوائف (أهل الكتاب) من اليهود والنصارى، ومن المعروف ان هؤلاء جميعاً يعتبرهم القرآن كفاراً يندمجون بحكم صفاتهم الكفرية في طليعة (مجتمع الكافرين). كما هو معروف الفرق بين مفهوم المسلمين والمؤمنين، وتنوع أشخاص المسلمين الشيء الذي يمنع من اعتبارهم (مجتمعاً ملتحماً) كالمؤمنين، أو الظالمين أو الكافرين في الخريطة القرآنية، لسبب واحد هو وجود الظالمين والمنافقين والعاصين بين صفوفهم، وتسلطهم في أغلب الأحيان على المؤمنين، حسب قانون "الابتلاء" أحد القوانين الأربعة التي سنتحدث عنها فيما بعد.

 

الدليل الثاني:

إنّ القرآن الكريم كله لم يصف أي فريق أو طبقة من الناس بهذا الوصف الاجتماعي المتميز النادر: (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) إلا هذه المجتمعات الثلاثة، المذكورة في الآيات الثلاثة، من السور الثلاثة.

نعم، تتكرر هذا الوصف مرة واحدة فقط بالنسبة لفرقَيْ "الأنصار والمهاجرين" (كنموذج) لأوّل مجتمع مثالي لـ"المؤمنين" في صدر الإسلام، بقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (الأنفال/ 71).

كما تكرر هذا الوصف مرة واحدة أيضاً بالنسبة لفرق "أهل الكتاب" (كنموذج) لأخطر مجتمع متطرف لـ"الكافرين" ضد المؤمنين، في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (المائدة/ 51).

ولم يتكرر هذا الوصف بالنسبة لمجتمع "الظالمين" ربما – والله أعلم – لأنّ الظالمين في الواقع يعيشون على هامش المجتمعين السابقين، فهم ليسوا "طرفاً فكرياً عقيدياً" كالمؤمنين أو الكافرين، ليكونوا بحاجة إلى (نموذج) يضرب به المثل، لكنهم استحقوا نفس الوصف المشترك الجامع بينهم وبين الطرفين المذكورين، لأنّهم يمثلون غالباً (الطرف الأقوى) مالياً أو سياسياً أو عسكرياً في أوطانهم.

ولعل هذا هو السبب أيضاً في أنّ الله تعالى ميز مجتمع "الظالمين" بالشدة في نصرة بعضهم لبعض، لأنها تعبر عن "رد فعل نفسي" لشدة خوفهم من انتقام مظلوميهم، وحرصهم على الانتصار والتحالف مع نظرائهم وشركائهم في الظلم والعدوان، بينما انتصار المؤمنين، وحتى الكافرين، بعضهم لبعض، ليس دائماً نتيجة خوف، بل نتيجة شعور بالأخوة الدينية (بين المؤمنين)، وبالزمالة الفكرية، والعنصرية العرقية أو القومية (بين الكافرين)، وهذا مع العلم بأن شدة الظالمين ترجع أيضاً لكونهم يملكون من وسائل القوة والقهر للدفاع عن مصالحهم المشتركة، ما لا يملكه المؤمنون والكافرون غالباً للدفاع عن عقائدهم.

 

الدليل الثالث:

أنّ القرآن الكريم لم يصف هذه المجتمعات الثلاثة المتباينة والمتعارضة فيما بينها، وصفاً عقيدياً أو لغوياً، يتطابق مع الاتجاه الفكري لكل منها، وإنما جاء بوصف فريد متميز، ومعبر أصدق تعبير عن "ظاهرة نفسية – اجتماعية" بمفهومها العلمي – المنهجي (وقد اشتهرت خاصة في عصرنا الحديث)، وتتمثل في انتصار الشخص تلقائياً – انطلاقاً من مجموع مكونات شخصيته الثقافية – لمن يشبه، ويتفق معه في العقيدة أو الفكر أو المصلحة باطنياً بصفة خاصة، وهي في نفس الوقت، "ظاهرة سياسية – تاريخية" تتكرر في كلّ العصور والحضارات, وتفضح اليوم زيف المنافقين، والعلمانيين، والماركسيين المعاصرين، الذين يعلنون انتسابهم للإسلام، بينما هم ينددون بالمؤمنين المجاهدين، أو يسخرون من المسلمين الأصوليين، ويحرضون عليهم أعداءهم، وينتصرون ويتضامنون عملياً مع هؤلاء الأعداء.

هذه فقط بعض القبسات المشرقة والغنية بالمعطيات العلمية والاجتماعية، لهذه الآيات الثلاثة، وهي تشرح لنا جانباً من إعجاز القرآن الكريم، فكلماته وجمله لا تؤدي معناها المطلوب منها في الموقع الواردة فيه فقط، وإنما تقدم لنا دلالات ومعاني أخرى إضافية، عندما تتكرر، وحسب تعدد هذا التكرار، وعندما يتغير موقعها، أو يتغير حرف أو كلمة منها، وعندما نعمد نحن – منهجياً – بدورنا، لمقارنة بعض هذه الكلمات والجمل، بنظائرها في صور مختلفة، أو نعمد لقراءة الآيات والجمل الواردة في موضوع واحد، لنكتشف هذا التكامل والتوالد والامتداد الذي يكتسبه ذلك الموضوع، عندئذ نكتشف – ولا يزال العلماء يكتشفون في كلّ العصور – هذا الفيض الزاخر والمعجز من حكم وأسرار القرآن الكريم.

 

المصدر: كتاب الخريطة القرآنية للمجتمعات البشرية

ارسال التعليق

Top